فصل: فَصْلٌ فِي أَحْكَامِ النَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرَاتِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الأحكام السلطانية والسياسة الدينية والولايات الشرعية



.فَصْلٌ فِي أَحْكَامِ النَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرَاتِ:

وَأَمَّا النَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرَاتِ فَيَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا مَا كَانَ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَالثَّانِي مَا كَانَ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ.
وَالثَّالِثُ مَا كَانَ مُشْتَرَكًا بَيْنَ الْحَقَّيْنِ.
فَأَمَّا النَّهْيُ عَنْهَا فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا مَا تَعَلَّقَ بِالْعِبَادَاتِ الثَّانِي مَا تَعَلَّقَ بِالْمَحْظُورَاتِ.
وَالثَّالِثُ مَا تَعَلَّقَ بِالْمُعَامَلَاتِ.
فَأَمَّا الْمُتَعَلِّقُ بِالْعِبَادَاتِ فَكَالْقَاصِدِ مُخَالَفَةَ هَيْئَاتِهَا الْمَشْرُوعَةِ وَالْمُتَعَمِّدِ تَغْيِيرَ أَوْصَافِهَا الْمَسْنُونَةِ مِثْلُ مَنْ يَقْصِدُ الْجَهْرَ فِي صَلَاةِ الْإِسْرَارِ، وَالْإِسْرَارَ فِي صَلَاةِ الْجَهْرِ أَوْ يَزِيدُ فِي الصَّلَاةِ أَوْ فِي الْأَذَانِ أَذْكَارًا غَيْرَ مَسْنُونَةٍ، فَلِلْمُحْتَسِبِ إنْكَارُهَا وَتَأْدِيبُ الْمُعَانِدِ فِيهَا إذَا لَمْ يَقُلْ بِمَا ارْتَكَبَهُ إمَامٌ مَتْبُوعٌ، وَكَذَلِكَ إذَا أَخَلَّ بِتَطْهِيرِ جَسَدِهِ أَوْ ثَوْبِهِ أَوْ مَوْضِعِ صَلَاتِهِ أَنْكَرَهُ عَلَيْهِ إذَا تَحَقَّقَ ذَلِكَ مِنْهُ، وَلَا يُؤَاخِذُهُ بِالتُّهَمِ وَلَا بِالظُّنُونِ؛ كَاَلَّذِي حُكِيَ عَنْ بَعْضِ النَّاظِرِينَ فِي الْحِسْبَةِ أَنَّهُ سَأَلَ رَجُلًا دَاخِلًا إلَى الْمَسْجِدِ بِنَعْلَيْنِ هَلْ يَدْخُلُ بِهِمَا بَيْتَ طَهَارَتِهِ فَلَمَّا أَنْكَرَ ذَلِكَ أَرَادَ إحْلَافَهُ عَلَيْهِ؛ وَهَذَا جَهْلٌ مِنْ فَاعِلِهِ تَعَدَّى فِيهِ أَحْكَامَ الْحِسْبَةِ وَغَلَبَ فِيهِ سُوءُ الظِّنَّةِ، وَهَكَذَا لَوْ ظَنَّ بِرَجُلٍ أَنَّهُ يَتْرُكُ الْغُسْلَ مِنْ الْجَنَابَةِ أَوْ يَتْرُكُ الصَّلَاةَ وَالصِّيَامَ لَمْ يُؤَاخِذْهُ بِالتُّهَمِ وَلَمْ يُعَامِلْهُ بِالْإِنْكَارِ، وَلَكِنْ يَجُوزُ لَهُ بِالتُّهْمَةِ أَنْ يَعِظَ وَيُحَذِّرَ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ عَلَى إسْقَاطِ حُقُوقِهِ وَالْإِخْلَالِ بِمَفْرُوضَاتِهِ.
فَإِنْ رَآهُ يَأْكُلُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ لَمْ يُقْدِمْ عَلَى تَأْدِيبِهِ إلَّا بَعْدَ سُؤَالِهِ عَنْ سَبَبِ أَكْلِهِ إذَا الْتَبَسَتْ أَحْوَالُهُ فَرُبَّمَا كَانَ مَرِيضًا أَوْ مُسَافِرًا، وَيَلْزَمُهُ السُّؤَالُ إذَا ظَهَرَتْ مِنْهُ أَمَارَاتُ الرَّيْبِ، فَإِنْ ذَكَرَ مِنْ الْأَعْذَارِ مَا يَحْتَمِلُهُ حَالُهُ كَفَّ عَنْ زَجْرِهِ وَأَمَرَهُ بِإِخْفَاءِ أَكْلِهِ لِئَلَّا يُعَرِّضَ نَفْسَهُ لِلتُّهْمَةِ، وَلَا يَلْزَمُ إحْلَافُهُ عِنْدَ الِاسْتِرَابَةِ بِقَوْلِهِ لِأَنَّهُ مَوْكُولٌ إلَى أَمَانَتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ عُذْرًا جَاهَرَ بِالْإِنْكَارِ عَلَيْهِ مُجَاهَرَةَ رَدْعٍ وَأَدَّبَهُ تَأْدِيبَ زَجْرٍ، وَهَكَذَا لَوْ عَلِمَ عُذْرَهُ فِي الْأَكْلِ أَنْكَرَ عَلَيْهِ الْمُجَاهَرَةَ بِتَعْرِيضِ نَفْسِهِ لِلتُّهْمَةِ، وَلِئَلَّا يَقْتَدِيَ بِهِ مِنْ ذَوِي الْجَهَالَةِ مِمَّنْ لَا يُمَيِّزُ حَالَ عُذْرِهِ مِنْ غَيْرِهِ.
وَأَمَّا الْمُمْتَنِعُ مِنْ إخْرَاجِ الزَّكَاةِ؛ فَإِنْ كَانَ مِنْ الْأَمْوَالِ الظَّاهِرَةِ فَعَامِلُ الصَّدَقَةِ يَأْخُذُهَا مِنْهُ جَبْرًا أَخَصُّ، وَهُوَ بِتَعْزِيرِهِ عَلَى الْغُلُولِ إنْ لَمْ يَجِدْ لَهُ عُذْرًا أَحَقُّ، وَإِنْ كَانَ مِنْ الْأَمْوَالِ الْبَاطِنَةِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُحْتَسِبُ أَخَصَّ بِالْإِنْكَارِ عَلَيْهِ مِنْ عَامِلِ الصَّدَقَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا اعْتِرَاضَ لِلْعَامِلِ فِي الْأَمْوَالِ الْبَاطِنَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْعَامِلُ بِالْإِنْكَارِ عَلَيْهِ أَخَصَّ؛ لِأَنَّهُ لَوْ دَفَعَهَا لَهُ أَجْزَأَهُ، وَيَكُونُ تَأْدِيبُهُ مُعْتَبَرًا بِشَوَاهِدِ حَالِهِ فِي الِامْتِنَاعِ مِنْ إخْرَاجِ زَكَاتِهِ، فَإِنْ ذَكَرَ أَنَّهُ يُخْرِجُهَا سِرًّا وُكِّلَ إلَى أَمَانَتِهِ فِيهَا.
وَإِنْ رَأَى رَجُلًا يَتَعَرَّضُ لِمَسْأَلَةِ النَّاسِ فِي طَلَبِ الصَّدَقَةِ وَعَلِمَ أَنَّهُ غَنِيٌّ إمَّا بِمَالٍ أَوْ عَمَلٍ أَنْكَرَهُ عَلَيْهِ وَأَدَّبَهُ فِيهِ وَكَانَ الْمُحْتَسِبُ بِإِنْكَارِهِ أَخَصَّ مِنْ عَامِلِ الصَّدَقَةِ.
قَدْ فَعَلَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِثْلَ ذَلِكَ بِقَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ، وَلَوْ رَأَى عَلَيْهِ آثَارَ الْغِنَى وَهُوَ يَسْأَلُ النَّاسَ أَعْلَمُهُ تَحْرِيمَهَا عَلَى الْمُسْتَغْنِي عَنْهَا وَلَمْ يُنْكِرْهُ عَلَيْهِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ فِي الْبَاطِنِ فَقِيرًا، وَإِذَا تَعَرَّضَ لِلْمَسْأَلَةِ ذُو جَلَدٍ وَقُوَّةٍ عَلَى الْعَمَلِ زَجَرَهُ وَأَمَرَهُ أَنْ يَتَعَرَّضَ لِلِاحْتِرَافِ بِعَمَلِهِ، فَإِنْ أَقَامَ عَلَى الْمَسْأَلَةِ عَزَّرَهُ حَتَّى يُقْلِعَ عَنْهَا.
وَإِنْ دَعَتْ الْحَالَةُ عِنْدَ إلْحَاحِ مَنْ حَرُمَتْ عَلَيْهِ الْمَسْأَلَةُ لِمَالٍ أَوْ عَمَلٍ إلَى أَنْ يُنْفِقَ عَلَى ذِي الْمَالِ جَبْرًا مِنْ مَالِهِ وَيُؤَجِّرَ ذَا الْعَمَلِ وَيُنْفِقَ عَلَيْهِ مِنْ أُجْرَتِهِ لَمْ يَكُنْ لِلْمُحْتَسِبِ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا حُكْمٌ وَالْحُكَّامَ بِهِ أَحَقُّ فَيَرْفَعُ أَمْرَهُ إلَى الْحَاكِمِ لِيَتَوَلَّى ذَلِكَ أَوْ يَأْذَنَ فِيهِ.
وَإِذَا وَجَدَ مَنْ يَتَصَدَّى لِعِلْمِ الشَّرْعِ، وَلَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ مِنْ فَقِيهٍ أَوْ وَاعِظٍ وَلَمْ يَأْمَنْ اغْتِرَارَ النَّاسِ بِهِ فِي سُوءِ تَأْوِيلٍ أَوْ تَحْرِيفِ جَوَابٍ أَنْكَرَ عَلَيْهِ التَّصَدِّي لِمَا لَيْسَ هُوَ مِنْ أَهْلِهِ وَأَظْهَرَ أَمْرَهُ لِئَلَّا يُغْتَرَّ بِهِ.
وَمَنْ أُشْكِلَ عَلَيْهِ أَمْرُهُ لَمْ يَقْدَمْ عَلَيْهِ بِالْإِنْكَارِ إلَّا بَعْدَ الِاخْتِبَارِ.
قَدْ مَرَّ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَهُوَ يَتَكَلَّمُ عَلَى النَّاسِ فَاخْتَبَرَهُ، فَقَالَ لَهُ مَا عِمَادُ الدِّينِ؟ فَقَالَ: الْوَرَعُ، قَالَ: فَمَا آفَتُهُ؟ قَالَ الطَّمَعُ، قَالَ: تَكَلَّمْ الْآنَ إنْ شِئْتَ، وَهَكَذَا لَوْ ابْتَدَعَ بَعْضُ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْعِلْمِ قَوْلًا خَرَقَ بِهِ الْإِجْمَاعَ وَخَالَفَ فِيهِ النَّصَّ وَرَدَّ قَوْلَهُ عُلَمَاءُ عَصْرِهِ أَنْكَرَهُ عَلَيْهِ وَزَجَرَهُ عَنْهُ، فَإِنْ أَقْلَعَ وَتَابَ وَإِلَّا فَالسُّلْطَانُ بِتَهْذِيبِ الدِّينِ أَحَقُّ وَإِذَا تَعَرَّضَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ لِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى بِتَأْوِيلٍ عَدَلَ فِيهِ عَنْ ظَاهِرِ التَّنْزِيلِ إلَى بَاطِنِ بِدْعَةٍ تَتَكَلَّفُ لَهُ غَمْضَ مَعَانِيهِ أَوْ تَفَرَّدَ بَعْضُ الرُّوَاةِ بِأَحَادِيثَ مَنَاكِيرَ تَنْفِرُ مِنْهَا النُّفُوسُ أَوْ يَفْسُدُ بِهَا التَّأْوِيلُ كَانَ عَلَى الْمُحْتَسِبِ إنْكَارُ ذَلِكَ وَالْمَنْعُ مِنْهُ، وَهَذَا إنَّمَا يَصِحُّ مِنْهُ إنْكَارُهُ إذَا تَمَيَّزَ عِنْدَهُ الصَّحِيحُ مِنْ الْفَاسِدِ وَالْحَقُّ مِنْ الْبَاطِلِ، وَذَلِكَ مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ، إمَّا أَنْ يَكُونَ بِقُوَّتِهِ فِي الْعِلْمِ وَاجْتِهَادِهِ فِيهِ حَتَّى لَا يَخْفَى ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَإِمَّا بِأَنْ يَتَّفِقَ عُلَمَاءُ الْوَقْتِ عَلَى إنْكَارِهِ وَابْتِدَاعِهِ فَيَسْتَعْدُونَهُ فِيهِ فَيَعُولُ فِي الْإِنْكَارِ عَلَى أَقَاوِيلِهِمْ وَفِي الْمَنْعِ مِنْهُ عَلَى اتِّفَاقِهِمْ.
فصل:
وَأَمَّا مَا تَعَلَّقَ بِالْمَحْظُورَاتِ فَهُوَ أَنْ يَمْنَعَ النَّاسَ مِنْ مَوَاقِفِ الرَّيْبِ وَمَظَانِّ التُّهْمَةِ فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «دَعْ مَا يَرِيبُكَ إلَى مَا لَا يَرِيبُكَ».
فَيُقَدَّمُ الْإِنْكَارُ وَلَا يُجْعَلُ بِالتَّأْدِيبِ قَبْلَ الْإِنْكَارِ.
حَكَى إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ نَهَى الرِّجَالَ أَنْ يَطُوفُوا مَعَ النِّسَاءِ فَرَأَى رَجُلًا يُصَلِّي مَعَ النِّسَاءِ فَضَرَبَهُ بِالدِّرَّةِ فَقَالَ الرَّجُلُ: وَاَللَّهِ إنْ كُنْتُ أَحْسَنْتُ لَقَدْ ظَلَمْتَنِي، وَإِنْ كُنْتُ أَسَأْتُ فَمَا عَلَّمْتَنِي، فَقَالَ عُمَرُ: أَمَا شَهِدْتَ عَزْمَتِي.
فَقَالَ: مَا شَهِدْتُ لَكَ عَزْمَةً فَأَلْقَى إلَيْهِ الدِّرَّةَ وَقَالَ لَهُ: اقْتَصَّ فَقَالَ: لَا أَقْتَصُّ الْيَوْمَ، قَالَ فَاعْفُ عَنِّي.
قَالَ لَا أَعْفُو، فَافْتَرَقَا عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ لَقِيَهُ مِنْ الْغَدِ فَتَغَيَّرَ لَوْنُ عُمَرَ فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ كَأَنِّي أَرَى مَا كَانَ مِنِّي قَدْ أَسْرَعَ فِيكَ؟ قَالَ أَجَلْ، قَالَ فَأُشْهِدُ اللَّهَ أَنِّي قَدْ عَفَوْت عَنْكَ.
وَإِذَا رَأَى وَقْفَةَ رَجُلٍ مَعَ امْرَأَةٍ فِي طَرِيقٍ سَابِلٍ لَمْ تَظْهَرْ مِنْهُمَا أَمَارَاتُ الرِّيَبِ لَمْ يَعْتَرِضْ عَلَيْهِمَا بِزَجْرٍ وَلَا إنْكَارٍ فَمَا يَجِدُ النَّاسُ بُدًّا مِنْ هَذَا.
وَإِنْ كَانَتْ الْوَقْفَةُ فِي طَرِيقٍ خَالٍ فَخُلُوُّ الْمَكَانِ رِيبَةٌ فَيُنْكِرُهَا وَلَا يُعَجِّلُ بِالتَّأْدِيبِ عَلَيْهِمَا حِذَارًا مِنْ أَنْ تَكُونَ ذَاتَ مَحْرَمٍ، وَلْيَقُلْ إنْ كَانَتْ ذَاتَ مَحْرَمٍ فَصُنْهَا عَنْ مَوَاقِفِ الرِّيَبِ، وَإِنْ كَانَتْ أَجْنَبِيَّةً فَخَفْ اللَّهَ تَعَالَى مِنْ خَلْوَةٍ تُؤَدِّيكَ إلَى مَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلْيَكُنْ زَجْرُهُ بِحَسَبِ الْأَمَارَاتِ.
حَكَى أَبُو الْأَزْهَرِ أَنَّ ابْنَ عَائِشَةَ رَأَى رَجُلًا يُكَلِّمُ امْرَأَةً فِي طَرِيقٍ فَقَالَ لَهُ إنْ كَانَتْ حُرْمَتَكَ إنَّهُ لَقَبِيحٌ بِكَ أَنْ تُكَلِّمَهَا بَيْنَ النَّاسِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ حُرْمَتَكَ فَهُوَ أَقْبَحُ، ثُمَّ وَلَّى عَنْهُ وَجَلَسَ لِلنَّاسِ يُحَدِّثُهُمْ فَإِذَا بِرُقْعَةٍ قَدْ أُلْقِيَتْ فِي حِجْرِهِ مَكْتُوبٍ فِيهَا (مِنْ الْكَامِلِ):
إنَّ الَّتِي أَبْصَرْتَنِي ** سَحَرًا أُكَلِّمُهَا رَسُولْ

أَدَّتْ إلَيَّ رِسَالَةً ** كَادَتْ لَهَا نَفْسِي تَسِيلْ

مِنْ فَاتِرِ الْأَلْحَاظِ يَجْ ** ذِبُ خَصْرَهُ رِدْفٌ ثَقِيلْ

مُتَنَكِّبًا قَوْسَ الصِّبَا ** يَرْمِي وَلَيْسَ لَهُ رَسِيلْ

فَلَوْ أَنْ أُذْنَكَ بَيْنَنَا ** حَتَّى تَسَمَّعَ مَا نَقُولْ

لَرَأَيْتَ مَا اسْتَقْبَحْتَ مِنْ ** أَمْرِي هُوَ الْحَسَنَ الْجَمِيلْ

فَقَرَأَهَا ابْنُ عَائِشَةَ وَوَجَدَ مَكْتُوبًا عَلَى رَأْسِهَا أَبُو نُوَاسٍ، فَقَالَ ابْنُ عَائِشَةَ: مَا لِي وَلِلتَّعْرِيضِ لِأَبِي نُوَاسٍ.
وَهَذَا الْقَدْرُ مِنْ إنْكَارِ ابْنِ عَائِشَةَ كَافٍ لِمِثْلِهِ، وَلَا يَكُونُ لِمَنْ نُدِبَ لِلْإِنْكَارِ مِنْ وُلَاةِ الْحِسْبَةِ كَافِيًا، وَلَيْسَ فِيمَا قَالَهُ أَبُو نُوَاسٍ تَصْرِيحٌ بِفُجُورٍ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ إشَارَةً إلَى ذَاتِ مَحْرَمٍ وَإِنْ كَانَتْ شَوَاهِدُ حَالِهِ وَفَحْوَى كَلَامِهِ يَنْطِقَانِ بِفُجُورِهِ وَرِيبَتِهِ فَيَكُونُ مِنْ مِثْلِ أَبِي نُوَاسٍ مُنْكَرًا وَإِنْ جَازَ أَنْ لَا يَكُونَ مِنْ غَيْرِهِ مُنْكَرًا.
فَإِذَا رَأَى الْمُحْتَسِبُ فِي هَذَا الْحَالِ مَا يُنْكِرُهُ تَأَتَّى وَتَفَحَّصَ وَرَاعَى شَوَاهِدَ الْحَالِ وَلَمْ يُعَجِّلْ بِالْإِنْكَارِ قَبْلَ الِاسْتِخْبَارِ، كَاَلَّذِي رَوَاهُ ابْنُ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ قَالَ: بَيْنَمَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ إذْ رَأَى رَجُلًا يَطُوفُ وَعَلَى عَاتِقِهِ امْرَأَةٌ مِثْلُ الْمَهَاةِ يَعْنِي حُسْنًا وَجَمَالًا وَهُوَ يَقُولُ (مِنْ السَّرِيعِ):
قُدْتُ لِهَذِي جَمَلًا ذَلُولًا

مُوَطَّأً أَتْبَعُ السَّهُولَا

أَعْدِلُهَا بِالْكَفِّ أَنْ تَمِيلَا

أَحْذَرُ أَنْ تَسْقُطَ أَوْ تَزُولَا

أَرْجُو بِذَاكَ نَائِلًا جَزِيلًا

فَقَالَ لَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَا عَبْدَ اللَّهِ مَنْ هَذِهِ الَّتِي وَهَبْتَ لَهَا حَجَّكَ؟ فَقَالَ امْرَأَتِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِنَّهَا حَمْقَاءُ مِرْغَامَةٌ، أَكُولٌ قِمَامَةٌ، لَا يَبْقَى لَهَا خَامَةٌ.
فَقَالَ لَهُ مَا لَكَ لَا تُطَلِّقُهَا؟ قَالَ إنَّهَا حَسْنَاءُ لَا تُفْرَكُ، وَأُمُّ صِبْيَانٍ لَا تُتْرَكُ.
قَالَ فَشَأْنُكَ بِهَا.
قَالَ أَبُو زَيْدٍ: الْمِرْغَامُ الْمُخْتَلِطُ، فَلَمْ يُقْدِمْ عَلَيْهِ بِالْإِنْكَارِ حَتَّى اسْتَخْبَرَهُ فَلَمَّا انْتَفَتْ عَنْهُ الرِّيبَةُ لَانَ لَهُ.
وَإِذَا جَاهَرَ رَجُلٌ بِإِظْهَارِ الْخَمْرِ، فَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا أَرَاقَهَا عَلَيْهِ وَأَدَّبَهُ، وَإِنْ كَانَ ذِمِّيًّا أَدَّبَهُ عَلَى إظْهَارِهَا.
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي إرَاقَتِهَا عَلَيْهِ، فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إلَى أَنَّهَا لَا تُرَاقُ عَلَيْهِ، لِأَنَّهَا عِنْدَهُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ الْمَضْمُونَةِ فِي حُقُوقِهِمْ.
وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهَا تُرَاقُ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهَا لَا تُضْمَنُ عِنْدَهُ فِي حَقِّ مُسْلِمٍ وَلَا كَافِرٍ.
وَأَمَّا الْمُجَاهَرَةُ بِإِظْهَارِ النَّبِيذِ، فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ مِنْ الْأَمْوَالِ الَّتِي يُقِرُّ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهَا فَيَمْتَنِعُ مِنْ إرَاقَتِهِ وَمِنْ التَّأْدِيبِ عَلَى إظْهَارِهِ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ كَالْخَمْرِ، وَلَيْسَ فِي إرَاقَتِهِ غُرْمٌ، فَيَعْتَبِرُ وَالِي الْحِسْبَةِ بِشَوَاهِدِ الْحَالِ فِيهِ فَيَنْتَهِي فِيهِ عَنْ الْمُجَاهَرَةِ وَيَزْجُرُ عَلَيْهَا إنْ كَانَ لِمُعَاقَرَةٍ وَلَا يُرِيقُهُ عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يَأْمُرَهُ بِإِرَاقَتِهِ حَاكِمٌ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ، لِئَلَّا يَتَوَجَّهَ عَلَيْهِ غُرْمٌ إنْ حُوكِمَ فِيهِ.
وَأَمَّا السَّكْرَانُ إذَا تَظَاهَرَ بِسُكْرِهِ وَسَخُفَ بِهَجْرِهِ أَدَّبَهُ عَلَى السُّكْرِ وَالْهَجْرِ تَعْزِيرًا لَا حَدًّا لِقِلَّةِ مُرَاقَبَتِهِ وَظُهُورِ سُخْفِهِ.
وَأَمَّا الْمُجَاهَرَةُ بِإِظْهَارِ الْمَلَاهِي الْمُحَرَّمَةِ فَعَلَى الْمُحْتَسِبِ أَنْ يَفْصِلَهَا حَتَّى تَصِيرَ خَشَبًا لِتَزُولَ عَنْ حُكْمِ الْمَلَاهِي، وَيُؤَدِّبَ عَلَى الْمُجَاهَرَةِ بِهَا، وَلَا يَكْسِرُهَا إنْ كَانَ خَشَبُهَا يَصْلُحُ لِغَيْرِ الْمَلَاهِي.
وَأَمَّا اللُّعَبُ فَلَيْسَ يُقْصَدُ بِهَا الْمَعَاصِي، وَإِنَّمَا يُقْصَدُ بِهَا إلْفُ الْبَنَاتِ لِتَرْبِيَةِ الْأَوْلَادِ.
وَفِيهَا وَجْهٌ مِنْ وُجُوهِ التَّدْبِيرِ تُقَارِنُهُ مَعْصِيَةٌ بِتَصْوِيرِ ذَوَاتِ الْأَزْوَاجِ وَمُشَابَهَةِ الْأَصْنَامِ، فَلِلتَّمْكِينِ مِنْهَا وَجْهٌ وَلِلْمَنْعِ مِنْهَا وَجْهٌ، وَبِحَسَبِ مَا تَقْتَضِيهِ شَوَاهِدُ الْأَحْوَالِ يَكُونُ إنْكَارُهُ وَإِقْرَارُهُ.
قَدْ دَخَلَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَهِيَ تَلْعَبُ بِالْبَنَاتِ فَأَقَرَّهَا وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهَا.
وَحُكِيَ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيَّ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ تَقَلَّدَ حِسْبَةَ بَغْدَادَ فِي أَيَّامِ الْمُقْتَدِرِ فَأَزَالَ سُوقَ الدَّادِيَّ وَمَنَعَ مِنْهَا، وَقَالَ: لَا يَصْلُحُ إلَّا لِلنَّبِيذِ الْمُحَرَّمِ وَأَقَرَّ سُوقَ اللُّعَبِ وَلَمْ يَمْنَعْ مِنْهَا وَقَالَ: قَدْ كَانَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا تَلْعَبُ بِالْبَنَاتِ بِمَشْهَدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يُنْكِرْهُ عَلَيْهَا؛ وَلَيْسَ مَا ذَكَرَهُ مِنْ اللُّعَبِ بِالْبَعِيدِ مِنْ الِاجْتِهَادِ.
وَأَمَّا سُوقُ الدَّادِيُّ فَالْأَغْلَبُ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ لَا يُسْتَعْمَلُ إلَّا فِي النَّبِيذِ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يُسْتَعْمَلَ نَادِرًا فِي الدَّوَاءِ وَهُوَ بَعِيدٌ، فَبَيْعُهُ عِنْدَ مَنْ يَرَى إبَاحَةَ النَّبِيذِ جَائِزٌ لَا يُكْرَهُ، وَعِنْدَ مَنْ يَرَى تَحْرِيمَهُ جَائِزٌ لِجَوَازِ اسْتِعْمَالِهِ فِي غَيْرِهِ، وَمَكْرُوهٌ اعْتِبَارًا بِالْأَغْلَبِ مِنْ حَالِهِ، وَلَيْسَ مَنْعُ أَبِي سَعِيدٍ مِنْهُ لِتَحْرِيمِ بَيْعِهِ عِنْدَهُ.
وَإِنَّمَا مِنْ الْمُظَاهَرَةِ بِإِفْرَادِ سُوقِهِ وَالْمُجَاهَرَةِ بِبَيْعِهِ إلْحَاقًا لَهُ بِإِبَاحَةِ مَا اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى إبَاحَةِ مَقْصِدِهِ لِيَقَعَ لِعَوَامِّ النَّاسِ الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ مِنْ الْمُبَاحَاتِ، وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ إنْكَارُ الْمُجَاهِرَةِ بِبَعْضِ الْمُبَاحَاتِ كَمَا يُنْكَرُ الْمُجَاهَرَةُ بِالْمُبَاحِ مِنْ مُبَاشَرَةِ الْأَزْوَاجِ وَالْإِمَاءِ.
وَأَمَّا مَا لَمْ يَظْهَرْ مِنْ الْمَحْظُورَاتِ فَلَيْسَ لِلْمُحْتَسِبِ أَنْ يَتَجَسَّسَ عَنْهَا وَلَا أَنْ يَهْتِكَ الْأَسْتَارَ حَذَرًا مِنْ الِاسْتِتَارِ بِهَا، قَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ أَتَى مِنْ هَذِهِ الْقَاذُورَاتِ شَيْئًا فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللَّهِ، فَإِنَّهُ مَنْ يُبْدِ لَنَا صَفْحَتَهُ نُقِمْ حَدَّ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ».
فَإِنْ غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ اسْتِسْرَارُ قَوْمٍ بِهَا لِأَمَارَاتٍ دَلَّتْ، وَآثَارٍ ظَهَرَتْ فَذَلِكَ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي انْتِهَاكِ حُرْمَةٍ يَفُوتُ اسْتِدْرَاكُهَا، مِثْلُ أَنْ يُخْبِرَهُ مَنْ يَثِقُ بِصِدْقِهِ أَنَّ رَجُلًا خَلَا بِامْرَأَةٍ لِيَزْنِيَ بِهَا أَوْ بِرَجُلٍ لِيَقْتُلَهُ، فَيَجُوزُ لَهُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالَةِ أَنْ يَتَجَسَّسَ وَيُقْدِمَ عَلَى الْكَشْفِ وَالْبَحْثِ حِذَارًا مِنْ فَوَاتِ مَا لَا يُسْتَدْرَكُ مِنْ انْتِهَاكِ الْمَحَارِمِ وَارْتِكَابِ الْمَحْظُورَاتِ، وَهَكَذَا لَوْ عَرَفَ ذَلِكَ قَوْمٌ مِنْ الْمُتَطَوِّعَةِ جَازَ لَهُمْ الْإِقْدَامُ عَلَى الْكَشْفِ، وَالْبَحْثُ فِي ذَلِكَ، وَالْإِنْكَارُ.
كَاَلَّذِي كَانَ مِنْ شَأْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ.
فَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ تَخْتَلِفُ إلَيْهِ بِالْبَصْرَةِ امْرَأَةٌ مِنْ بَنِي هِلَالٍ يُقَالُ لَهَا أُمُّ جَمِيل بِنْتُ مِحْجَنِ بْنِ الْأَفْقَمِ وَكَانَ لَهَا زَوْجٌ مِنْ ثَقِيفٍ يُقَالُ لَهُ الْحَجَّاجُ بْنُ عُبَيْدٍ، فَبَلَغَ ذَلِكَ أَبَا بَكْرِ بْنَ مَسْرُوحٍ وَسَهْلَ بْنَ مَعْبَدٍ وَنَافِعَ بْنَ الْحَارِثِ وَزِيَادَ بْنَ عُبَيْدٍ فَرَصَدُوهُ حَتَّى إذَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ هَجَمُوا عَلَيْهِمَا وَكَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ فِي الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ عِنْدَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَا هُوَ مَشْهُورٌ فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هُجُومَهُمْ.
وَإِنْ كَانَ حَدَّهُمْ الْقَذْفَ عِنْدَ قُصُورِ الشَّهَادَةِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي مَا خَرَجَ عَنْ هَذَا الْحَدِّ وَقَصَّرَ عَنْ حَدِّ هَذِهِ الرُّتْبَةِ، فَلَا يَجُوزُ التَّجَسُّسُ عَلَيْهِ وَلَا كَشْفُ الْأَسْتَارِ عَنْهُ.
حُكِيَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: دَخَلَ عَلَى قَوْمٍ يَتَعَاقَرُونَ عَلَى شَرَابٍ وَيُوقِدُونَ فِي أَخْصَاصٍ فَقَالَ: نَهَيْتُكُمْ عَنْ الْمُعَاقَرَةِ فَعَاقَرْتُمْ وَنَهَيْتُكُمْ عَنْ الْإِيقَادِ فِي الْأَخْصَاصِ فَأَوْقَدْتُمْ، فَقَالُوا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ نَهَاكَ اللَّهُ عَنْ التَّجَسُّسِ فَتَجَسَّسْتَ وَنَهَاكَ عَنْ الدُّخُولِ بِغَيْرِ إذْنٍ فَدَخَلْتَ، فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: هَاتَانِ بِهَاتَيْنِ وَانْصَرَفَ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُمْ.
فَمَنْ سَمِعَ أَصْوَاتًا مِلْأَةً مُنْكَرَةً مِنْ دَارٍ تَظَاهَرَ أَهْلُهَا بِأَصْوَاتِهِمْ أَنْكَرَهَا خَارِجَ الدَّارِ وَلَمْ يَهْجُمْ عَلَيْهِ بِالدُّخُولِ؛ لِأَنَّ الْمُنْكَرَ ظَاهِرٌ وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَكْشِفَ عَمَّا سِوَاهُ مِنْ الْبَاطِنِ.
فصل:
وَأَمَّا الْمُعَامَلَاتُ الْمُنْكَرَةُ كَالزِّنَا وَالْبُيُوعِ الْفَاسِدَةِ وَمَا مَنَعَ الشَّرْعُ مِنْهُ مَعَ تَرَاضِي الْمُتَعَاقِدَيْنِ بِهِ إذَا كَانَ مُتَّفَقًا عَلَى حَظْرِهِ فَعَلَى وَالِي الْحِسْبَةِ إنْكَارُهُ وَالْمَنْعُ مِنْهُ وَالزَّجْرُ عَلَيْهِ وَأَمْرُهُ فِي التَّأْدِيبِ مُخْتَلَفٌ لِحَسَبِ الْأَحْوَالِ وَشِدَّةِ الْحَظْرِ.
وَأَمَّا مَا اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حَظْرِهِ وَإِبَاحَتِهِ فَلَا مَدْخَلَ لَهُ فِي إنْكَارِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا ضَعُفَ الْخِلَافُ فِيهِ وَكَانَ ذَرِيعَةً إلَى مَحْظُورٍ مُتَّفَقٍ عَلَيْهِ كَرِبَا النَّقْدِ فَالْخِلَافُ فِيهِ ضَعِيفٌ وَهُوَ ذَرِيعَةٌ إلَى رِبَا النَّسَاءِ الْمُتَّفَقِ عَلَى تَحْرِيمِهِ، فَهَلْ يَدْخُلُ فِي إنْكَارِهِ بِحُكْمِ وِلَايَتِهِ أَوْ لَا؟ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ الْوَجْهَيْنِ.
وَفِي مَعْنَى الْمُعَامَلَاتِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مِنْهَا عُقُودُ الْمَنَاكِحِ الْمُحَرَّمَةِ يُنْكِرُهَا إنْ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى حَظْرِهَا؛ وَلَا يَتَعَرَّضُ لِإِنْكَارِهَا إنْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهَا إلَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا ضَعُفَ الْخِلَافُ فِيهِ وَكَانَ ذَرِيعَةً إلَى مَحْظُورٍ مُتَّفَقٍ عَلَيْهِ كَالْمُتْعَةِ فَرُبَّمَا صَارَتْ ذَرِيعَةً إلَى اسْتِبَاحَةِ الزِّنَا، فَفِي إنْكَارِهِ لَهَا وَجْهَانِ، وَلْيَكُنْ بَدَلَ إنْكَارِهِ لَهَا التَّرْغِيبُ فِي الْعُقُودِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا وَمِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالْمُعَامَلَاتِ غِشُّ الْمَبِيعَاتِ وَتَدْلِيسُ الْأَثْمَانِ فَيُنْكِرُهُ وَيَمْنَعُ مِنْهُ وَيُؤَدِّبُ عَلَيْهِ بِحَسَبِ الْحَالِ فِيهِ.
رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ غَشَّ».
فَإِنْ كَانَ هَذَا الْغِشُّ تَدْلِيسًا عَلَى الْمُشْتَرِي وَيَخْفَى عَلَيْهِ فَهُوَ أَغْلَظُ الْغِشِّ تَحْرِيمًا وَأَعْظَمُهَا مَأْثَمًا فَالْإِنْكَارُ عَلَيْهِ أَغْلَظُ وَالتَّأْدِيبُ عَلَيْهِ أَشَدُّ، وَإِنْ كَانَ لَا يَخْفَى عَلَى الْمُشْتَرِي كَانَ أَخَفَّ مَأْثَمًا وَأَلْيَنَ إنْكَارًا، وَيَنْظُرُ فِي مُشْتَرِيهِ، فَإِنْ اشْتَرَاهُ لِيَبِيعَهُ مِنْ غَيْرِهِ تَوَجَّهَ الْإِنْكَارُ عَلَى الْبَائِعِ لِغِشِّهِ وَعَلَى الْمُشْتَرِي بِابْتِيَاعِهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَبِيعُهُ لِمَنْ لَا يَعْلَمُ بِغِشِّهِ، فَإِنْ كَانَ يَشْتَرِيهِ لِيَسْتَعْمِلَهُ خَرَجَ الْمُشْتَرِي مِنْ جُمْلَةِ الْإِنْكَارِ وَتَفَرَّدَ الْبَائِعُ وَحْدَهُ، وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي تَدْلِيسِ الْأَثْمَانِ.
وَيُمْنَعُ مِنْ تَصْرِيَةِ الْمَوَاشِي وَتَحْفِيلِ ضُرُوعِهَا عِنْدَ الْبَيْعِ لِلنَّهْيِ عَنْهُ فَإِنَّهُ نَوْعٌ مِنْ التَّدْلِيسِ.
وَمِمَّا هُوَ عُمْدَةٌ نَظَرُهُ الْمَنْعَ مِنْ التَّطْفِيفِ وَالْبَخْسِ فِي الْمَكَايِيلِ وَالْمَوَازِينِ وَالصَّنَجَاتِ لِوَعِيدِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ عِنْدَ نَهْيِهِ عَنْهُ، وَلْيَكُنْ الْأَدَبُ عَلَيْهِ أَظْهَرَ وَالْمُعَاقَبَةُ فِيهِ أَكْثَرَ.
وَيَجُوزُ لَهُ إذَا اسْتَرَابَ بِمَوَازِينِ السُّوقَةِ وَمَكَايِيلِهِمْ أَنْ يَخْتَبِرَهَا وَيُعَايِرَهَا وَلَوْ كَانَ لَهُ عَلَى مَا عَايَرَهُ مِنْهَا طَابِعٌ مَعْرُوفٌ بَيْنَ الْعَامَّةِ لَا يَتَعَامَلُونَ إلَّا بِهِ كَانَ أَحْوَطَ وَأَسْلَمَ.
فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ وَتَعَامَلَ قَوْمٌ بِغَيْرِ مَا طُبِعَ بِطَابِعِهِ تَوَجَّهَ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِمْ إنْ كَانَ مَبْخُوسًا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا لِمُخَالَفَتِهِ فِي الْعُدُولِ عَنْ مَطْبُوعِهِ وَإِنْكَارُهُ مِنْ الْحُقُوقِ السُّلْطَانِيَّةِ.
وَالثَّانِي: لِلْبَخْسِ وَالتَّطْفِيفِ فِي الْحَقِّ وَإِنْكَارُهُ مِنْ الْحُقُوقِ الشَّرْعِيَّةِ، فَإِنْ كَانَ مَا تَعَامَلُوا بِهِ مِنْ غَيْرِ الْمَطْبُوعِ سَلِيمًا مِنْ بَخْسٍ وَنَقْصٍ تَوَجَّهَ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِمْ بِحَقِّ السَّلْطَنَةِ وَحْدَهَا لِأَجْلِ الْمُخَالَفَةِ؛ وَإِنْ زَوَّرَ قَوْمٌ عَلَى طَابِعِهِ كَانَ الْمُزَوِّرُ فِيهِ كَالْمُهَرِّجِ عَلَى طَابِعِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ فَإِنْ قُرِنَ التَّزْوِيرُ بِغِشٍّ كَانَ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِ وَالتَّأْدِيبُ مُسْتَحَقًّا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا فِي حَقِّ السَّلْطَنَةِ مِنْ جِهَةِ التَّزْوِيرِ.
وَالثَّانِي مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ فِي الْغِشِّ وَهُوَ أَغْلَظُ النُّكْرَيْنِ، وَإِنْ سَلِمَ التَّزْوِيرُ مِنْ غِشٍّ تَفَرَّدَ بِالْإِنْكَارِ السُّلْطَانِيِّ مِنْهُمَا فَكَانَ أَحَقَّهُمَا.
وَإِذَا اتَّسَعَ الْبَلَدُ حَتَّى احْتَاجَ أَهْلُهُ فِيهِ إلَى كَيَّالِينَ وَوَزَّانِينَ وَنَقَّادِينَ تَخَيَّرَهُمْ الْمُحْتَسِبُ وَمَنَعَ أَنْ يُنْتَدَبَ لِذَلِكَ إلَّا مَنْ ارْتَضَاهُ مِنْ الْأُمَنَاءِ الثِّقَاتِ وَكَانَتْ أُجُورُهُمْ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ إنْ اتَّسَعَ لَهَا، فَإِنْ ضَاقَ قَدْرُهَا لَهُمْ حَتَّى لَا يَجْرِيَ بَيْنَهُمْ فِيهَا اسْتِزَادَةٌ وَلَا نُقْصَانٌ فَيَكُونَ ذَلِكَ ذَرِيعَةً إلَى الْمُمَايَلَةِ وَالتَّحَيُّفِ فِي مَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ.
وَقَدْ كَانَ الْأُمَرَاءُ يَقُومُونَ بِاخْتِيَارِهِمْ وَتَرْتِيبِهِمْ لِذَلِكَ وَيُثْبِتُونَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فِي الدَّوَاوِينِ حَتَّى لَا يَخْتَلِطَ بِهِمْ غَيْرُهُمْ مِمَّنْ لَا تُؤْمَنُ وَسَاطَتُهُ، فَإِنْ ظَهَرَ مِنْ أَحَدِ هَؤُلَاءِ الْمُخْتَارِينَ لِلْكَيْلِ وَالْوَزْنِ تَحَيُّفٌ فِي تَطْفِيفٍ أَوْ مُمَايَلَةٌ فِي زِيَادَةِ أَدَبٍ أُخْرِجَ عَنْ جُمْلَةِ الْمُخْتَارِينَ وَمُنِعَ أَنْ يَتَعَرَّضَ لِلْوَسَاطَةِ بَيْنَ النَّاسِ وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي اخْتِيَارِ الدَّلَّالِينَ يُقِرُّ مِنْهُمْ الْأُمَنَاءَ وَيَمْنَعُ الْخَوَنَةَ، وَهَذَا مِمَّا يَتَوَلَّاهُ وُلَاةُ الْحِسْبَةِ إنْ قَعَدَ عَنْهُ الْأُمَرَاءُ.
وَأَمَّا اخْتِيَارُ الْقُسَّامِ وَالزُّرَّاعِ فَالْقُضَاةُ أَحَقُّ بِاخْتِيَارِهِمْ مِنْ وُلَاةِ الْحِسْبَةِ لِأَنَّهُمْ قَدْ يُسْتَنَابُونَ فِي أَمْوَالِ الْأَيْتَامِ وَالْعِيَبِ.
وَأَمَّا اخْتِيَارُ الْحَرَّاسِينَ فِي الْقَبَائِلِ وَالْأَسْوَاقِ فَإِلَى الْحُمَاةِ وَأَصْحَابِ الْمَعَاوِنِ.
وَإِذَا وَقَعَ فِي التَّطْفِيفِ تَخَاصُمٌ جَازَ أَنْ يَنْظُرَ الْمُحْتَسِبُ إنْ لَمْ يَكُنْ مَعَ الْخَصْمِ فِيهِ تَجَاحُدٌ وَتَنَاكُرٌ، فَإِنْ أَفْضَى إلَى تَجَاحُدٍ وَتَنَاكُرٍ كَانَ الْقُضَاةُ أَحَقَّ بِالنَّظَرِ فِيهِ مِنْ وُلَاةِ الْحِسْبَةِ لِأَنَّهُمْ بِالْأَحْكَامِ أَحَقُّ وَكَانَ التَّأْدِيبُ فِيهِ إلَى الْمُحْتَسِبِ، فَإِنْ تَوَلَّاهُ الْحَاكِمُ جَازَ لِاتِّصَالِهِ بِحُكْمِهِمْ.
وَمِمَّا يُنْكِرُهُ الْمُحْتَسِبُ فِي الْعُمُومِ وَلَا يُنْكِرُهُ فِي الْخُصُوصِ وَالْآحَادِ التَّبَايُعُ بِمَا لَمْ يَأْلَفْهُ أَهْلُ الْبَلَدِ مِنْ الْمَكَايِيلِ وَالْأَوْزَانِ الَّتِي لَا نَعْرِفُ فِيهِ إنْ كَانَتْ مَعْرُوفَةً فِي غَيْرِهِ، فَإِنْ تَرَاضَى بِهَا اثْنَانِ لَمْ يَعْتَرِضْ عَلَيْهِمَا الْإِنْكَارَ وَالْمَنْعَ، وَيَمْنَعُ أَنْ يَرْتَسِمَ بِهَا قَوْمٌ مِنْ الْعُمُومِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُعَامِلُهُمْ فِيهَا مَنْ لَا يَعْرِفُهَا فَيَصِيرُ مَغْرُورًا.
فصل:
وَأَمَّا مَا يُنْكِرُ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ الْمُحْصَنَةِ فَمِثْلُ أَنْ يَتَعَدَّى رَجُلٌ فِي حَدٍّ لِجَارِهِ أَوْ فِي حَرِيمٍ لِدَارِهِ أَوْ فِي وَضْعِ أَجْذَاعٍ عَلَى جِدَارِهِ فَلَا اعْتِرَاضَ لِلْمُحْتَسِبِ فِيهِ مَا لَمْ يَسْتَعْدِهِ الْجَارُ؛ لِأَنَّهُ يَخُصُّهُ فَيُنْصَحُ مِنْهُ الْعَفْوُ عَنْهُ وَالْمُطَالَبَةُ بِهِ، فَإِنْ خَاصَمَهُ فِيهِ كَانَ لِلْمُحْتَسِبِ النَّظَرُ فِيهِ إنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا تَنَازُعٌ وَتَنَاكُلٌ وَأَخَذَ الْمُتَعَدِّيَ بِإِزَالَةِ تَعْدِيَةٍ وَكَانَ لَهُ تَأْدِيبُهُ عَلَيْهِ بِحَسَبِ شَوَاهِدِ الْحَالِ.
فَإِنْ تَنَازَعَا كَانَ الْحَاكِمُ بِالنَّظَرِ فِيهِ أَحَقَّ، وَلَوْ أَنَّ الْجَارَ أَقَرَّ جَارَهُ عَلَى تَعَدِّيهِ وَعَفَا عَنْ مُطَالَبَتِهِ بِهَدْمِ مَا تَعَدَّى فِيهِ ثُمَّ عَادَ مُطَالِبًا بَعْدَ ذَلِكَ كَانَ لَهُ ذَلِكَ وَأَخَذَ الْمُتَعَدِّيَ بَعْدَ الْعَفْوِ عَنْهُ بِهَدْمِ مَا بَنَاهُ؛ وَلَوْ كَانَ قَدْ ابْتَدَأَ الْبِنَاءَ وَوَضَعَ الْأَجْذَاعَ بِإِذْنِ الْجَارِ ثُمَّ رَجَعَ الْجَارُ فِي إذْنِهِ لَمْ يُؤْخَذْ الثَّانِي بِهَدْمِهِ.
وَلَوْ انْتَشَرَتْ أَغْصَانُ الشَّجَرَةِ إلَى دَارِ جَارِهِ كَانَ لِلْجَارِ أَنْ يَسْتَعْدِيَ الْمُحْتَسِبَ حَتَّهُ يُعَدِّيهِ عَلَى صَاحِبِ الشَّجَرَةِ لِيَأْخُذَهُ بِإِزَالَةِ مَا انْتَشَرَ مِنْ أَغْصَانِهَا فِي دَارِهِ وَلَا تَأْدِيبَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ انْتِشَارَهَا لَيْسَ مِنْ فِعْلِهِ، وَلَوْ انْتَشَرَتْ عُرُوقُ الشَّجَرَةِ تَحْتَ الْأَرْضِ حَتَّى دَخَلَتْ فِي قَرَارِ أَرْضِ الْجَارِ لَمْ يُؤْخَذْ بِقَلْعِهَا وَلَمْ يُمْنَعْ الْجَارُ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي قَرَارِ أَرْضِهِ وَإِنْ قَطَعَهَا نَصَّبَ الْمَلِكُ تَنُّورًا فِي دَارِهِ فَتَأَذَّى الْجَارُ بِدُخَانِهِ لَمْ يُعْتَرَضْ عَلَيْهِ وَلَمْ يُمْنَعْ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ نَصَّبَ فِي دَارِهِ رَحًى أَوْ وَضَعَ فِيهَا حَدَّادِينَ أَوْ قَصَّابِينَ لَمْ يُمْنَعْ؛ لِأَنَّ لِلنَّاسِ التَّصَرُّفَ فِي أَمْلَاكِهِمْ بِمَا أَحَبُّوا وَمَا يَجِدُ النَّاسُ مِنْ مِثْلِ هَذَا بُدًّا وَإِذَا تَعَدَّى مُسْتَأْجِرٌ عَلَى أَجِيرٍ فِي نُقْصَانِ أُجْرَةٍ أَوْ اسْتِزَادَةِ عَمَلٍ كَفَّهُ عَنْ تَعَدِّيهِ، وَكَانَ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِ مُعْتَبَرًا بِشَوَاهِدِ حَالِهِ، وَلَوْ قَصَّرَ الْأَجِيرُ فِي حَقِّ الْمُسْتَأْجِرِ فَنَقَصَهُ مِنْ الْعَمَلِ أَوْ اسْتَزَادَهُ فِي الْأُجْرَةِ مَنَعَهُ مِنْهُ وَأَنْكَرَهُ عَلَيْهِ إذَا تَخَاصَمَا إلَيْهِ، فَإِنْ اخْتَلَفَا وَتَنَاكَرَا كَانَ الْحَاكِمُ بِالنَّظَرِ بَيْنَهُمَا أَحَقَّ وَمِمَّا يُؤْخَذُ وُلَاةُ الْحِسْبَةِ بِمُرَاعَاتِهِ مِنْ أَهْلِ الصَّنَائِعِ فِي الْأَسْوَاقِ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ: مِنْهُمْ مَنْ يُرَاعِي عَمَلَهُ فِي الْوُفُورِ وَالتَّقْصِيرِ؛ وَمِنْهُمْ مَنْ يُرَاعِي فِي حَالَةِ الْأَمَانَةِ وَالْخِيَانَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُرَاعِي عَمَلَهُ فِي الْجَوْدَةِ وَالرَّدَاءَةِ.
فَأَمَّا مَنْ يُرَاعِي فِي عَمَلِهِ فِي الْوُفُورِ وَالتَّقْصِيرِ فَكَالطَّبِيبِ وَالْمُعَلِّمِينَ؛ لِأَنَّ الطَّبِيبَ إقْدَامًا عَلَى النُّفُوسِ يُفْضِي التَّقْصِيرُ فِيهِ إلَى تَلَفٍ أَوْ سَقَمٍ، وَلِلْمُعَلِّمِينَ مِنْ الطَّرَائِقِ الَّتِي يَنْشَأُ الصِّغَارُ عَلَيْهَا مَا يَكُونُ نَقْلُهُمْ عَنْهَا بَعْدَ الْكِبَرِ عَسِيرًا فَيُقَرُّ مِنْهُمْ مَنْ تَوَفَّرَ عَمَلُهُ وَحَسُنَتْ طَرِيقَتُهُ وَيُمْنَعُ مَنْ قَصَّرَ وَأَسَاءَ مِنْ التَّصَدِّي لِمَا يُفْسِدُ بِهِ النُّفُوسَ وَتَخْبُثُ بِهِ الْآدَابُ.
وَأَمَّا مَنْ يُرَاعِي فِي الْأَمَانَةِ وَالْخِيَانَةِ فَمِثْلُ الصَّاغَةِ وَالْحَاكَةِ وَالْقَصَّارِينَ وَالصَّبَّاغِينَ؛ لِأَنَّهُمْ رُبَّمَا هَرَبُوا بِأَمْوَالِ النَّاسِ، فَيُرَاعِي أَهْلَ الثِّقَةِ وَالْأَمَانَةِ مِنْهُمْ فَيُقِرُّهُمْ وَيُبْعِدُ مَنْ ظَهَرَتْ خِيَانَتُهُ وَيُشْهِرُ أَمْرَهُ لِئَلَّا يَغْتَرَّ بِهِ مَنْ لَا يَعْرِفُهُ، وَقَدْ قِيلَ: إنَّ الْحُمَاةَ وَوُلَاةَ الْمُعَاوِنِ أَخَصُّ بِالنَّظَرِ فِي أَحْوَالِ هَؤُلَاءِ مِنْ وُلَاةِ الْحِسْبَةِ وَهُوَ الْأَشْبَهُ، لِأَنَّ الْخِيَانَةَ تَابِعَةٌ لِلسَّرِقَةِ.
وَأَمَّا مَنْ يُرَاعِي عَمَلَهُ فِي الْجَوْدَةِ وَالرَّدَاءَةِ فَهُوَ مِمَّا يَنْفَرِدُ بِالنَّظَرِ فِيهِ وُلَاةُ الْحِسْبَةِ، وَلَهُمْ أَنْ يُنْكِرُوا عَلَيْهِمْ فِي الْعُمُومِ فَسَادَ الْعَمَلِ وَرَدَاءَتَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مُسْتَعِدٌّ.
وَأَمَّا فِي عَمَلٍ مَخْصُوصٍ اعْتَادَ الصَّانِعُ فِيهِ الْفَسَادَ وَالتَّدْلِيسَ فَإِذَا اسْتَعْدَاهُ الْخَصْمُ قَابَلَ عَلَيْهِ بِالْإِنْكَارِ وَالزَّجْرِ، فَإِنْ تَعَلَّقَ بِذَلِكَ غُرْمٌ رُوعِيَ حَالُ الْغُرْمِ، فَإِنْ افْتَقَرَ إلَى تَقْرِيرٍ أَوْ تَقْوِيمٍ لَمْ يُمْكِنْ لِلْمُحْتَسِبِ أَنْ يَنْظُرَ فِيهِ لِافْتِقَارِهِ إلَى اجْتِهَادٍ حُكْمِيٍّ وَكَانَ الْقَاضِي بِالنَّظَرِ فِيهِ أَحَقَّ، وَإِنْ لَمْ يَفْتَقِرْ إلَى تَقْدِيرٍ وَلَا تَقْوِيمٍ وَاسْتَحَقَّ فِيهِ الْمِثْلَ الَّذِي لَا اجْتِهَادَ فِيهِ، وَلَا تَنَازُعَ فَلِلْمُحْتَسِبِ أَنْ يَنْظُرَ فِيهِ بِإِلْزَامِ الْغُرْمِ وَالتَّأْدِيبِ عَلَى فِعْلِهِ؛ لِأَنَّهُ أَخْذٌ بِالتَّنَاصُفِ وَزَجْرٌ عَنْ التَّعَدِّي.
وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُسَعِّرَ عَلَى النَّاسِ الْأَقْوَاتَ وَلَا غَيْرَهَا فِي رُخْصٍ وَلَا غَلَاءٍ وَأَجَازَهُ مَالِكٌ فِي الْأَقْوَاتِ مَعَ الْغَلَاءِ.
فصل:
وَأَمَّا مَا يُنْكَرُ مِنْ الْحُقُوقِ الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ فَكَالْمَنْعِ مِنْ الْإِشْرَافِ عَلَى مَنَازِلِ النَّاسِ، وَلَا يَلْزَمُ مَنْ عَلَا بِنَاؤُهُ أَنْ يَسْتُرَ سَطْحَهُ وَإِنَّمَا يَلْزَمُ أَنْ لَا يُشْرِفَ عَلَى غَيْرِهِ وَيُمْنَعُ أَهْلُ الذِّمَّةِ مِنْ تَعْلِيَةِ أَبْنِيَتِهِمْ عَلَى أَبْنِيَةِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ مَلَكُوا أَبْنِيَةً عَالِيَةً أُقِرُّوا عَلَيْهَا وَمُنِعُوا مِنْ الْإِشْرَافِ مِنْهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَأَهْلِ الذِّمَّةِ بِمَا شُرِطَ عَلَيْهِمْ فِي ذِمَّتِهِمْ مِنْ لُبْسِ الْغِيَارِ وَالْمُخَالَفَةِ فِي الْهَيْئَةِ وَتَرْكِ الْمُجَاهَرَةِ بِقَوْلِهِمْ فِي الْعُزَيْرِ وَالْمَسِيحِ وَيُمْنَعُ عَنْهُمْ مَنْ تَعَرَّضَ لَهُمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ بِسَبٍّ أَوْ أَذًى، وَيُؤَدَّبُ عَلَيْهِ مَنْ خَالَفَ فِيهِ.
وَإِذَا كَانَ فِي أَئِمَّةِ الْمَسَاجِدِ السَّابِلَةِ وَالْجَوَامِعِ الْجَفْلَةِ مَنْ يُطِيلُ الصَّلَاةَ حَتَّى يَعْجِزَ عَنْهَا الضُّعَفَاءُ وَيَنْقَطِعَ بِهَا ذَوُو الْحَاجَاتِ أَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِ كَمَا أَنْكَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ حِينَ أَطَالَ الصَّلَاةَ بِقَوْمِهِ وَقَالَ: «أَفَتَّانٌ أَنْتَ يَا مُعَاذُ».
فَإِنْ أَقَامَ عَلَى الْإِطَالَةِ وَلَمْ يَمْتَنِعْ مِنْهَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُؤَدِّبَهُ عَلَيْهَا وَلَكِنْ يَسْتَبْدِلُ بِهِ مَنْ يُخَفِّفُهَا.
وَإِذَا كَانَ فِي الْقُضَاةِ مَنْ يُجِيبُ الْخُصُومَ إذَا قَصَدُوهُ وَيَمْتَنِعُ مِنْ النَّظَرِ بَيْنَهُمْ إذَا تَحَاكَمُوا إلَيْهِ حَتَّى تَقِفَ الْأَحْكَامُ وَيَسْتَضِرَّ الْخُصُومُ فَلِلْمُحْتَسِبِ أَنْ يَأْخُذَهُ مَعَ ارْتِفَاعِ الْأَعْذَارِ بِمَا نُدِبَ لَهُ مِنْ النَّظَرِ بَيْنَ الْمُتَحَاكِمِينَ وَفَصْلِ الْقَضَاءِ بَيْنَ الْمُتَنَازِعِينَ، وَلَا يَمْنَعُ عُلُوُّ رُتْبَتِهِ مِنْ إنْكَارِ مَا قَصَّرَ فِيهِ.
قَدْ مَرَّ إبْرَاهِيمُ بْنُ بَطْحَاءَ وَالِي الْحِسْبَةِ بِجَانِبَيْ بَغْدَادَ بِدَارِ أَبِي عُمَرَ بْنِ حَمَّادٍ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ قَاضِي الْقُضَاةِ فَرَأَى الْخُصُومَ جُلُوسًا عَلَى بَابِهِ يَنْتَظِرُونَ جُلُوسَهُ لِلنَّظَرِ بَيْنَهُمْ وَقَدْ تَعَالَى النَّهَارُ وَهَجَرَتْ الشَّمْسُ، فَوَقَفَ وَاسْتَدْعَى حَاجِبَهُ وَقَالَ: تَقُولُ لِقَاضِي الْقُضَاةِ الْخُصُومُ جُلُوسٌ عَلَى الْبَابِ وَقَدْ بَلَغَتْهُمْ الشَّمْسُ وَتَأَذَّوْا بِالِانْتِظَارِ، فَإِمَّا جَلَسْتَ لَهُمْ أَوْ عَرَّفْتَهُمْ عُذْرَكَ فَيَنْصَرِفُوا وَيَعُودُوا.
وَإِذَا كَانَ فِي سَادَةِ الْعَبِيدِ مَنْ يَسْتَعْمِلُهُمْ فِيمَا لَا يُطِيقُونَ الدَّوَامَ عَلَيْهِ كَانَ مَنْعُهُمْ وَالْإِنْكَارُ عَلَيْهِمْ مَوْقُوفًا عَلَى اسْتِعْدَاءِ الْعَبِيدِ عَلَى وَجْهِ الْإِنْكَارِ وَالْعِظَةِ، فَإِذَا اسْتَعْدَوْهُ مُنِعَ حِينَئِذٍ وَزُجِرَ.
وَإِذَا كَانَ مِنْ أَرْبَابِ الْمَوَاشِي مَنْ يَسْتَعْمِلُهَا فِيمَا لَا يُطِيقُ الدَّوَامَ عَلَيْهِ أَنْكَرَهُ الْمُحْتَسِبُ عَلَيْهِ وَمَنَعَهُ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مُسْتَعِدٌّ إلَيْهِ، فَإِنْ ادَّعَى الْمَالِكُ احْتِمَالَ الْبَهِيمَةِ لِمَا يَسْتَعْمِلُهَا فِيهِ جَازَ لِلْمُحْتَسِبِ أَنْ يَنْظُرَ فِيهِ لِأَنَّهُ، وَإِنْ افْتَقَرَ إلَى اجْتِهَادٍ فَهُوَ عُرْفِيٌّ يُرْجَعُ فِيهِ إلَى عُرْفِ النَّاسِ وَعَادَاتِهِمْ، وَلَيْسَ بِاجْتِهَادٍ شَرْعِيٍّ وَالْمُحْتَسِبُ لَا يُمْنَعُ مِنْ اجْتِهَادِ الْعُرْفِ.
وَإِنْ اُمْتُنِعَ مِنْ اجْتِهَادِ الشَّرْعِ.
وَإِذَا اسْتَعْدَاهُ الْعَبْدُ فِي امْتِنَاعِ سَيِّدِهِ مِنْ كُسْوَتِهِ وَنَفَقَتِهِ جَازَ أَنْ يَأْمُرَهُ بِهِمَا وَيَأْخُذَهُ بِالْتِزَامِهِمَا، وَلَوْ اسْتَعْدَاهُ مِنْ تَقْصِيرِ سَيِّدِهِ فِيهِمَا لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي ذَلِكَ نَظَرٌ، وَلَا إلْزَامَ لِأَنَّهُ فِي التَّقْدِيرِ إلَى اجْتِهَادٍ شَرْعِيٍّ، وَلَا يَحْتَاجُ فِي الْتِزَامِ الْأَصْلِ إلَى اجْتِهَادٍ شَرْعِيٍّ؛ لِأَنَّ التَّقْدِيرَ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ وَلُزُومَهُ غَيْرُ مَنْصُوصٍ عَلَيْهِ.
وَلِلْمُحْتَسِبِ أَنْ يَمْنَعَ أَرْبَابَ السُّفُنِ مِنْ حَمْلِ مَا لَا تَسَعُهُ وَيُخَافُ مِنْهُ غَرَقُهَا، وَكَذَلِكَ يَمْنَعُهُمْ مِنْ الْمَسِيرِ عِنْدَ اشْتِدَادِ الرِّيحِ، وَإِذَا حَمَلَ فِيهَا الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ حُجِزَ بَيْنَهُمْ بِحَائِلٍ.
وَإِذَا اتَّسَعَتْ السُّفُنُ نُصِّبَ لِلنِّسَاءِ مَخَارِجُ لِلْبِرَازِ لِئَلَّا يَتَبَرَّجْنَ عِنْدَ الْحَاجَةِ.
وَإِذَا كَانَ فِي أَسْهَلِ الْأَسْوَاقِ مَنْ يَخْتَصُّ بِمُعَامَلَةِ النِّسَاءِ رَاعَى الْمُحْتَسِبُ سِيرَتَهُ وَأَمَانَتَهُ، فَإِذَا تَحَقَّقَهَا مِنْهُ أَقَرَّهُ عَلَى مُعَامَلَتِهِنَّ، وَإِنْ ظَهَرَتْ مِنْهُ الرِّيبَةُ وَبَانَ عَلَيْهِ الْفُجُورُ مَنَعَهُ مِنْ مُعَامَلَتِهِنَّ وَأَدَّبَهُ عَلَى التَّعَرُّضِ لَهُنَّ؛ وَقَدْ قِيلَ إنَّ الْحُمَاةَ وَوُلَاةَ الْمُعَاوِنِ أَخَصُّ بِإِنْكَارِ هَذَا وَالْمَنْعِ مِنْهُ مِنْ وُلَاةِ الْحِسْبَةِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ تَوَابِعِ الزِّنَا.
وَيَنْظُرُونَ إلَى الْحِسْبَةِ فِي مَقَاعِدِ الْأَسْوَاقِ فَيُقِرُّ مِنْهَا مَا لَا ضَرَرَ فِيهِ عَلَى الْمَارَّةِ وَيَمْنَعُ مَا اسْتَضَرَّ بِهِ الْمَارَّةُ؛ وَلَا يَقِفُ مَنْعُهُ عَلَى الِاسْتِعْدَاءِ إلَيْهِ، وَجَعَلَهُ أَبُو حَنِيفَةَ مَوْقُوفًا عَلَى الِاسْتِعْدَاءِ إلَيْهِ.
وَإِذَا بَنَى قَوْمٌ فِي طَرِيقٍ سَابِلٍ مُنِعَ مِنْهُ، وَإِنْ اتَّسَعَ الطَّرِيقُ يَأْخُذُهُمْ بِهَدْمِ مَا بَنَوْهُ وَلَوْ كَانَ الْمَبْنِيُّ مَسْجِدًا؛ لِأَنَّ مَرَافِقَ الطُّرُقِ لِلسُّلُوكِ لَا لِلْأَبْنِيَةِ.
وَإِذَا وَضَعَ النَّاسُ الْأَمْتِعَةَ وَآلَاتِ الْأَبْنِيَةِ فِي مَسَالِكِ الشَّوَارِعِ وَالْأَسْوَاقِ ارْتِفَاقًا لِيَنْقُلُوهُ حَالًا بَعْدَ حَالٍ مُكِّنُوا مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَضِرَّ بِهِ الْمَارَّةُ؛ وَمُنِعُوا مِنْهُ إنْ اسْتَضَرُّوا بِهِ، وَهَذَا الْقَوْلُ فِي إخْرَاجِ الْأَجْنِحَةِ وَالْأَسْبِطَةِ وَمَجَارِي الْمِيَاهِ وَآبَارِ الْحُشُوشِ يُقِرُّ مَا لَا يَضُرُّ وَيَمْنَعُ مَا ضَرَّ وَيَجْتَهِدُ الْمُحْتَسِبُ رَأْيَهُ فِيمَا ضَرَّ، وَمَا لَمْ يَضُرَّ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الِاجْتِهَادِ الْعُرْفِيِّ دُونَ الشَّرْعِيِّ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الِاجْتِهَادَيْنِ أَنَّ الِاجْتِهَادَ الشَّرْعِيَّ مَا رُوعِيَ فِيهِ أَصْلٌ ثَبَتَ حُكْمُهُ بِالشَّرْعِ وَالِاجْتِهَادُ الْعُرْفِيُّ مَا رُوعِيَ فِيهِ أَصْلٌ ثَبَتَ حُكْمُهُ بِالْعُرْفِ، وَيُوَضَّحُ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا بِتَمْيِيزِ مَا يَسُوغُ فِيهِ اجْتِهَادُ الْمُحْتَسِبِ مِمَّا هُوَ مَمْنُوعُ الِاجْتِهَادِ فِيهِ.
وَلِوَالِي الْحِسْبَةِ أَنْ يَمْنَعَ مِنْ نَقْلِ الْمَوْتَى مِنْ قُبُورِهِمْ إذَا دُفِنُوا فِي مِلْكٍ أَوْ مُبَاحٍ إلَّا فِي أَرْضٍ مَغْصُوبَةٍ فَيَكُونُ لِمَالِكِهَا أَنْ يَأْخُذَ مَنْ دَفَنَهُ فِيهَا بِنَقْلِهِ مِنْهَا، وَاخْتُلِفَ فِي جَوَازِ نَقْلِهِمْ مِنْ أَرْضٍ قَدْ لَحِقَهَا سَيْلٌ أَوْ نَدًى فَجَوَّزَهُ الزُّبَيْرِيُّ وَأَبَاهُ غَيْرُهُ.
وَيَمْنَعُ مِنْ خِصَاءِ الْآدَمِيِّينَ وَالْبَهَائِمِ وَيُؤَدِّبُ عَلَيْهِ وَإِنْ اُسْتُحِقَّ فِيهِ قَوَدٌ أَوْ دِيَةٌ اسْتَوْفَاهُ لِمُسْتَحِقِّهِ مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ تَنَاكُرٌ وَتَنَازُعٌ.
وَيَمْنَعُ مِنْ خِضَابِ الشَّيْبِ بِالسَّوَادِ إلَّا لِلْمُجَاهَدَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَيُؤَدِّبُ مَنْ يَصْبُغُ بِهِ لِلنِّسَاءِ وَلَا يَمْتَنِعُ مِنْ الْخِضَابِ بِالْحِنَّاءِ وَالْكَتَمِ، فَيَمْنَعُ مِنْ التَّكَسُّبِ بِالْكَهَانَةِ وَاللَّهْوِ وَيُؤَدِّبُ عَلَيْهِ الْآخِذَ وَالْمُعْطِيَ.
وَهَذَا فَصْلٌ يَطُولُ أَنْ يُبْسَطَ لِأَنَّ الْمُنْكَرَاتِ لَا يَنْحَصِرُ عَدَدُهَا فَتُسْتَوْفَى وَفِيمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ شَوَاهِدِنَا دَلِيلٌ عَلَى مَا أَغْفَلْنَاهُ.
وَالْحِسْبَةُ مِنْ قَوَاعِدِ الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ، وَقَدْ كَانَ أَئِمَّةُ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ يُبَاشِرُونَهَا بِأَنْفُسِهِمْ لِعُمُومِ صَلَاحِهَا وَجَزِيلِ ثَوَابِهَا؛ وَلَكِنْ لَمَّا أَعْرَضَ عَنْهَا السُّلْطَانُ وَنَدَبَ لَهَا مَنْ هَانَ وَصَارَتْ عُرْضَةً لِلتَّكَسُّبِ وَقَبُولِ الرِّشَا لَانَ أَمْرُهَا وَهَانَ عَلَى النَّاسِ خَطَرُهَا، وَلَيْسَ إذَا وَقَعَ الْإِخْلَالُ بِقَاعِدَةٍ سَقَطَ حُكْمُهَا، وَقَدْ أَغْفَلَ الْفُقَهَاءُ عَنْ بَيَانِ أَحْكَامِهَا مَا لَمْ يَجُزْ الْإِخْلَالُ بِهِ وَإِنْ كَانَ أَكْثَرُ كِتَابِنَا هَذَا يَشْتَمِلُ عَلَى مَا قَدْ أَغْفَلَهُ الْفُقَهَاءُ أَوْ قَصَّرُوا فِيهِ فَذَكَرْنَا مَا أَغْفَلُوهُ وَاسْتَوْفَيْنَا مَا قَصَّرُوا فِيهِ.
وَأَنَا أَسْأَلُ اللَّهَ تَوْفِيقًا لِمَا تَوَخَّيْنَاهُ وَعَوْنًا عَلَى مَا نَوَيْنَاهُ بِمَنِّهِ وَمَشِيئَتِهِ؛ وَهُوَ حَسْبِي وَنِعْمَ الْوَكِيلُ.